فصل: تفسير الآيات (33- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (7- 9):

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
{مِنْهُ آيات محكمات} المحكم من القرآن: هو البيِّن المعنى، الثابت الحكم، والمتشابه: هو الذي يحتاج إلى التأويل، أو يكون مستغلق المعنى: كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكمات: الناسخاتُ والحلال والحرام، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر، وهو تمثيل لما قلنا {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي عمدة ما فيه ومعظمه {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذاً، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه، وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن {ابتغاء الفتنة} أي ليفتنوا به الناس {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي: يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} إخبارٌ بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس {والراسخون فِي العلم} مبتدأ مقطوع مما قبله، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون: آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوف على ما قبله، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مرويٌ عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح، وقال ابن عطية: المتشابه نوعان؛ نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول، وعطفاً بالنظر إلى الثاني {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} أي: المحكم والمتشابه من عند الله {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} حكاية عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعاً على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام، وأما قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}: فهو من كلام الله تعالى، لا حكاية قول الراسخين. أو منقطعاً فهو من كلام الله

.تفسير الآيات (11- 12):

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)}
{كَدَأْبِ} في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب {آلِ فِرْعَوْنَ} وفي ذلك تهديد {والذين مِن قَبْلِهِمْ} عطف على آل فرعون، ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير عائد على آل فرعون {بآياتنا} البراهين أو الكتاب {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} قرئ بتاء الخطاب ليهود المدينة، وقيل لكفار قريش، وقرئ بالياء إخباراً عن يهود المدينة، وقيل: عن قريش وهو صادق على كل قول، أما اليهود فغلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع، وأما قريش ففي بدر وغيرها. والأشهر أنها في بني قينقاع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر، فقالوا له: لا يغرنك أنك قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال فلو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فنزلت الآية: ثم أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة.

.تفسير الآية رقم (13):

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)}
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} قيل: خطاب للمؤمنين وقيل: لليهود، وقيل: لقريش؛ والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم: ستغلبون. ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم {فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ} المسلمون والمشركون يوم بدر {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} قرئ: ترونهم بالتاء خطاباً لمن خوطب بقوله: قد كان لكم آية. والمعنى: ترون الكفار مثْلي المؤمنين. ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم، وقُرئ بالياء. والفاعل في يرونهم المؤمنون، والمفعول به هم المشركون. والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم. فإن قيل: إنّ الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين؛ فالجواب من وجهين أحدهما: أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين، لأن الكفار كانوا قريباً من ألف، والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر. ثم إنّ الله تعالى قلّل عدد الكفار في أعين المؤمنين؛ حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين، ليتجاسروا على قتالهم، إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للأثنين من قوله: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66]، وهذا المعنى موافق لقوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: 44]، والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلاً، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين، وقيل: إنّ الفاعل في يرونهم ضمير المشركين، والمفعول ضمير المؤمنين. وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين. والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين. وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم، ويرد هذا قوله تعالى: ويقللكم في أعينهم ليرهبوهم، ويرد هذا قوله تعالى: ويقللكم في أعينهم. {رَأْيَ العين} نصب على المصدرية، ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين؛ مع أنهم كانوا أكثر منهم.

.تفسير الآية رقم (14):

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان. ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة {والقناطير} جمع قنطار، وهو ألف ومائتا أوقية، وقيل: ألف ومائتا مثقال، وكلاهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم {المقنطرة} مبنية من لفظ القناطير وللتأكيد؛ كقولهم: ألوف مؤلفة، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم {المسومة} الراعية من قولهم: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح، وقيل: المعلمة في وجوهها شيات فهي من السمات بمعنى العلامات وقيل: المعدة للجهاد {ذلك مَتَاعُ الحياوة الدنيا} تحقير لها ليزهد فيها الناس.

.تفسير الآيات (15- 17):

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} تفضيل للآخرة على الدنيا ليرغب فيها. وتمام الكلام في قوله: {مِّن ذلكم} ثم ابتدأ قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} تفسيراً لذلك، فجنات على هذا مبتدأ وخبره للذين اتقوا، وقيل: إن قوله للذين اتقوا متعلق بما قبله. وتمام الكلام في قوله: عند ربهم، فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر {ورضوان مِّنَ الله} زيادة إلى نعيم الجنة، وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث {الذين يَقُولُونَ} نعتٌ للذين اتقوا، ورفع بالابتداء، أو نصب بإضمار فعل {الصادقين} في الأقوال والأفعال {والقانتين} العابدين والمطيعين {والمستغفرين} الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نستغفر؟ فقال: قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم {بالأسحار} جمع سحر وهو آخر الليل يقال: إنه الثلث الأخير، وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذٍ: «من يستغفرني فأغفر له».

.تفسير الآية رقم (18):

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
{شَهِدَ الله} الآية: شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل: معناها إعلامه لعباده بذلك {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية، ويعني بأولي العلم: العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته {قَآئِمَاً} منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح {بالقسط} بالعدل {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إنما كرر التهليل لوجهين: أحدهما: أنه ذكر أولاً الشهادة بالوحدانية، ثم ذكرها ثانياً بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة، والآخر: أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها.

.تفسير الآيات (19- 20):

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
{إِنَّ الدِّينَ} بكسر الهمزة ابتداء، وبفتحها بدل من أنه، وهو بدل شيء من شيء، لأن التوحيد هو الإسلام {وَمَا اختلف الذين} الآية: إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي، وهو الحسد، والآية في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل: فيهما {سَرِيعُ الحساب} قد تقدّم معناه في البقرة وهو هنا تهديد، ولذلك وقع في جواب من يكفر {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي جادلوك في الدين، والضمير لليهود ونصارى نجران {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أي أخلصت نفسي وجملتي {للَّهِ} وعبّر بالوجه على الجملة ومعنى الآية: إقامة الحجة عليهم؛ لأن من أسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك، فسقطت حجة من خالفه {وَمَنِ اتبعن} عطف على التاء في أسلمت ويجوز أن يكون مفعولاً معه {أَأَسْلَمْتُمْ} تقرير بعد إقامة الحجة عليهم أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: إنما عليكم أن تبلغ رسالة ربك، فإذا أبلغتها فقد فعلت ما عليك، وقيل: إن فيها موادعة نسختها آية السيف.

.تفسير الآيات (21- 25):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} الآية: نزلت في اليهود والنصارى توبيخاً لهم، ووعيداً على قبح أفعالهم، وأفعال أسلافهم {الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 19] هم اليهود، والكتاب هنا التوراة، أو جنس {يَدْعُونَ إِلَى النار والله} [البقرة: 221] قال ابن عباس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد، فقالوا له: على أي دين أنت؟ فقال لهم: على دين إبراهيم، فقالوا: إنّ إبراهيم كان يهودياً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه فنزلت الآية، فكتاب الله على هذا التوراة، وقيل: هو القرآن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فيعرضون عنه {ذلك بِأَنَّهُمْ} الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية: والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم، والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} أي: كيف يكون حالهم يوم القيامة، والمعنى: تهويل واستعظام لما أعدّ لهم.

.تفسير الآية رقم (26):

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
{اللهم} منادى، والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين، ولذلك لا يجتمعان، وقال الكوفيون: أصله يا الله أمّنا بخير فالميم عندهم من أمّنا {مالك الملك} منادى عند سيبويه، وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله؛ وقيل إنّ الآية نزلت ردّاً على النصارى في قولهم: إنّ عيسى هو الله لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى، وقيل: لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر: استبعد ذلك المنافقون، فنزلت الآية {بِيَدِكَ الخير} قيل: المراد بيدك الخير والشر، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقيل: إنما خص الخير بالذكر، لأنّ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأنه يقول: بيدك الخير فأجزل حظي منه.

.تفسير الآية رقم (27):

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
{وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} قال عبد الله بن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حياً وهي ميتة، وقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وقيل: يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، فالحياة والموت على هذا استعارة، وفي ذكر الحي من الميت المطابقة، وهي من أدوات البيان، وفيه أيضاً القلب لأنه قدم الحيّ على الميت، ثم عكس {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تضييق وقيل: بغير محاسبة.

.تفسير الآيات (28- 31):

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون} الآية. عامة في جميع الأعصار، وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود، وقيل: كتاب حاطب إلى مشركي قريش {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} تبرؤ ممن فعل ذلك. ووعيد على موالاة الكفار، وفي الكلام حذف تقديره: ليس من التقرب إلى الله {فِي شَيْءٍ}، وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله، قاله ابن عطية {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ} إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم، والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن {تقاة} وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين. وفاؤه واو، وأبدل منها تاء، ولامه ياء أبدل منها ألف، وهو منصوب على المصدرية، ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} تخويف {يَوْمَ تَجِدُ} منصوب على الظرفية، والعامل فيه فعل مضمر تقديره: اذكروا أو خافوا وقيل: العامل فيه قدير، وقيل: المصير، وقيل: يحذركم {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء} مبتدأ خبره تودّ، أو معطوف {أَمَدَاً} أي مسافة {والله رَؤُوفٌ} ذُكر بعد التحذير تأنيساً لئلا يفرط في الخوف، أو لأن التحذير والتنبيه رأفة {فاتبعوني} جعل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له، وقيل إنّ الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس.

.تفسير الآيات (33- 37):

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
{إِنَّ الله اصطفى} الآية: لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه، وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه السلام، وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما السلام تكميلاً للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء، ثم ذكر إبراهيم تدريجاً إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: إنّ عمران هنا هو والد موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، والأظهر أن المراد هنا والد مريم، لذكر قصتها بعد ذلك {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} يحتمل أن يريد بآل: القرابة، أو الأتباع، وعلى الوجهين؛ يدخل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في آل إبراهيم {ذُرِّيَّةً} بدل مما تقدم أو حال ووزنه فعليه منسوب إلى الذر أي النمل. لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، {إِذْ قَالَتِ} العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا، وقيل: عليم، وقال الزجّاج: العامل فيه معنى الاصطفاء {امرأت عِمْرَانَ} اسمها حنة بالنون، وهي أم مريم، وعمران هذا هو والد مريم {نَذَرْتُ} أي: جعلت نذراً عليّ أن يكون هذا الولد في بطني حبساً على خدمة بيتك، وهو بيت المقدس {مُحَرَّراً} أي عتيقاً من كل شغل إلاّ خدمة المسجد {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} الآية. كانوا لا يحررون الإناث للقيام بخدمة المساجد، فقالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} تحسراً وتلهفاً على ما فاتها من النذر الذي نذرت {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرئ وضعت بإسكان التاء وهو من كلام الله تعظيماً لوضعها وقرئ بضم التاء وإسكان العين وهو على هذا من كلامهما {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} يحتمل أن يكون من كلام الله، فالمعنى ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد؛ لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الأناث {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} إنما قالت لربها سميتها مريم؛ لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، ويؤخذ من هذا تسمية المولود يوم ولادته، وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث، وفيه أيضاً العجمة {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} ورد في الحديث: «ما من مولود إلاّ نخسة الشيطان يوم ولد فيستهل صارخاً إلاّ مريم وابنها»، لقوله: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}: الآية {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} أي رضيها للمسجد مكان الذكر {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مصدراً على غير المصدر، والآخر: أن يكون اسماً لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} عبارة عن حسن النشأة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها، وقرئ كفلها بتشديد الفاء، ونصب زكريا: أي جعله الله كافلها {المحراب} في اللغة: أشرف المجالس، وبذلك سمي موضع العبادة {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويقال: إنها لم ترضع ثدياً قط، وكان الله يرزقها {أنى لَكِ هذا} إشارة إلى مكان أي: كيف ومن أين؟ {إِنَّ الله يَرْزُقُ} يحتمل أن يكون من كلام مريم أو من كلام الله تعالى.